سورة النحل - تفسير تفسير ابن عطية

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (النحل)


        


{ذرأ} معناه بث ونشر، والذرية من هذا في أحد الأقوال في اشتقاقها، وقوله {ألوانه} معناه أصنافه، كما تقول هذه ألوان من التمر ومن الطعام، ومن حيث كانت هذه المبثوثات في الأرض أصنافاً فأعدت في النعمة وظهر الانتفاع بها أنه على وجوه، ولا يظهر ذلك من حيث هي متلونة حمرة وصفرة وغير ذلك، ويحتمل أن يكون التنبيه على اختلاف الألوان حمرة وصفرة والأول أبين. وقوله تعالى: {وهو الذي سخر البحر} الآية تعديد نعم، وتسخير البحر هو تمكين البشر من التصرف فيه وتذليله للركوب والإرفاق وغيره، و{البحر} الماء الكثير ملحاً كان أو عذباً، كله يسمى بحراً، و{البحر} هنا اسم جنس، وإذا كان كذلك فمنه أكل اللحم الطري ومنه استخراج الحلية، وأكل اللحم يكون من ملحه وعذبه، وإخراج الحلية إنما يكون فيما عرف من الملح فقط، ومما عرف من ذلك اللؤلؤ والمرجان والصدف والصوف البحري، وقد يوجد في العذب لؤلؤ لا يلبس إلا قليلاً، وإنما يتداوى به، ويقال إن في الزمرد بحرياً وقد خطئ الهذلي في وصف الدرة. [الطويل]
فجاء بها من درة لطمية *** على وجهها ماء الفرات يدوم
فجعلها من الماء الحلو.
قال القاضي أبو محمد: وتأمل أن قوله يخرج على أنه وصف بريقها ومائيتها فشبهه بماء الفرات، ولم يذهب إلى الغرض الذي خطئ فيه، واللحم الطري، والحلية ما تقدم، و{الفلك} هنا جمع، و{مواخر} جمع ماخرة، والمخر في اللغة الصوت الذي يكون من هبوب الريح على شيء يشق أو يصعب في الجملة الماء فيترتب منه أن يكون من السفينة ونحوها وهو في هذه الآية من السفن، ويقال للسحاب بنات مخر تشبيهاً، إذ في جريها ذلك الصوت الذي هو عن الريح والماء الذي في السحاب، وأمرها يشبه أمر البحر على أن الزجاج قد قال: بنات المخر سحاب بيض لا ماء فيها، وقال بعض اللغويين المخر في كلام العرب الشق يقال: مخر الماء الأرض.
قال القاضي أبو محمد: فهذا بين أن يقال فيه للفلك {مواخر}، وقال قوم {مواخر} معناه تجيء وتذهب بريح واحدة، وهذه الأقوال ليست تفسير اللفظة، وإنما أرادوا أنها مواخر بهذه الأحوال، إذ هي موضع النعمة المعددة، إذ نفس كون الفلك ماخرة لا نعمة فيه، وإنما النعمة في مخرها بهذه الأحوال في التجارات والسفر فيها وما يمنح الله فيها من الأرباح والمن، وقال الطبري: المخر في اللغة صوت هبوب الريح ولم يقيد ذلك بكون في ماء، وقال إن من ذلك قول واصل مولى ابن عيينة إذا أراد أحدكم البول فليتمخر الريح أي لينظر في صوتها في الأجسام من أين تهب، فيتجنب استقبالها لئلا ترد عليه بوله، وقوله {ولتبتغوا} عطف على {تأكلوا}، وهذا ذكر نعمة لها تفاصيل لا تحصى، فيه إباحة ركوب البحر للتجارة وطلب الأرباح، وهذه ثلاثة أسباب في تسخير البحر، وقوله {وألقى في الأرض} الآية، قال المتأولون {ألقى} بمعنى خلق وجعل.
قال القاضي أبو محمد: وهي عندي أخص من خلق وجعل، وذلك أن {ألقى} تقتضي أن الله أحدث الجبال ليس من الأرض لكن من قدرته واختراعه، ويؤيد هذا النظر ما روي في القصص عن الحسن عن قيس بن عباد، أن الله تعالى لما خلق الأرض، وجعلت تمور، فقالت الملائكة ما هذه بمقرة على ظهرها أحداً، فأصبحت ضحى وفيها رواسيها. والرواسي الثوابت، رسا الشيء يرسو إذا ثبت، ومنه قول الشاعر في صفة الوتد:
وأشعث أرسته الوليدة بالفهد *** و{أن} مفعول من أجله، والميد الاضطراب، وقوله {أنهاراً} منصوب بفعل مضمر تقديره وجعل أو وخلق أنهاراً.
قال القاضي أبو محمد: وإجماعهم على إضمار هذه الفعل دليل على خصوص ل {ألقى} ولو كانت {ألقى} بمعنى خلق لم يحتج إلى هذا الإضمار، والسبل الطرق، وقوله {لعلكم تهتدون} في مشيكم وتصرفكم في السبل، ويحتمل {لعلكم تهتدون} بالنظر في هذه المصنوعات على صانعها، وهذا التأويل هو البارع، أي سخر وألقى وجعل أنهاراً وسبلاً لعل البشر يعتبر ويرشد ولتكون علامات.


{عَلامات} نصب على المصدر، أي فعل هذه الأشياء لعلكم تعتبرون بها {وعلامات} أي عبرة وإعلاماً في كل سلوك، فقد يهتدي بالجبال والأنهار والسبل، واختلف الناس في معنى قوله {وعلامات} على أن الأظهر عندي ما ذكرت، فقال ابن الكلبي العلامات الجبال، وقال إبراهيم النخعي ومجاهد: العلامات النجوم، ومنها ما سمي علامات ومنها ما يهتدي به، وقال ابن عباس: العلامات معالم الطرق بالنهار، والنجوم هداية الليل.
قال القاضي أبو محمد: والصواب إذا قدرنا الكلام غير معلق بما قبله أن اللفظة تعم هذا وغيره، وذلك أن كل ما دل على شيء وأعلم به فهو علامة، وأحسن الأقوال المذكورة، قول ابن عباس رضي الله عنه: لأنه عموم في المعنى فتأمله، وحدثني أبي رضي الله عنه أنه سمع بعض أهل العلم بالمشرق يقول: إن في بحر الهند الذي يجري فيه من اليمن إلى الهند حيتاناً طوالاً رقاقاً كالحيات في التوائها وحركاتها وألوانها، وإنها تسمى علامات، وذلك أنها علامة الوصول إلى بلد الهند، وأمارة إلى النجاة والانتهاء إلى الهند لطول ذلك البحر وصعوبته، وإن بعض الناس قال: إنها التي أراد الله تعالى في هذه الآية.
قال القاضي أبو محمد: قال أبي رضي الله عنه: وأما من شاهد تلك العلامات في البحر المذكور وعاينها فحدثني منهم عدد كثير، وقرأ الجمهور {وبالنجم} على أنه اسم الجنس، وقرأ يحيى بن وثاب {وبالنُّجْم} بضم النون والجيم ساكنة على التخفيف من ضمها، وقرأ الحسن {وبالنُّجم} بضم النون وذلك جمع، كسقف وسقف، ورهن ورهن، ويحتمل أن يراد وبالنجوم، فحذفت الواو.
قال القاضي أبو محمد: وهذا عندي توجيه ضعيف، وقال الفراء: المراد الجدي والفرقدان. وقال غيره: المراد القطب الذي لا يجري وقال قوم: غير هذا، وقال قوم: هو اسم الجنس وهذا هو الصواب، ثم قررهم على التفرقة بين من يخلق الأشياء ويخترعها وبين من لا يقدر على شيء من ذلك، وعبر عن الأصنام ب من لوجهين، أحدهما أن الآية تضمنت الرد على جميع من عبد غير الله، وقد عبرت طوائف من تقع عليه العبارة ب من، والآخر أن العبارة جرت في الأصنام بحسب اعتقاد الكفرة فيها في أن لها تأثيراً وأفعالاً، ثم وبخهم بقوله {أفلا تذكرون}، وقوله {وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها} أي إن حاولتم إحصاءها وحصرها عدداً حتى يشذ شيء منها لم تقدروا على ذلك، ولا اتفق لكم إحصاؤها إذ هي في كل دقيقة من أحوالكم،. والنعمة هنا مفردة يراد بها الجمع، وبحسب العجز عن عد نعم الله يلزم أن يكون الشاكر لها مقصراً عن بعضها، فلذلك قال عز وجل {إن الله لغفور رحيم} أي تقصيركم في الشكر عن جميعها، نحا هذا المنحى الطبري، ويرد عليه أن نعمة الله تعالى في قول العبد: الحمد لله رب العالمين مع شروطها من النية والطاعة يوازي جميع النعم، ولكن أين قولها بشروطها؟ والمخاطبة بقوله {وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها} عامة لجميع الناس، وقوله {والله يعلم ما تسرون وما تعلنون} الآية متصلة بمعنى ما قبله، أي أن الله لغفور في تقصيركم عن شكر ما لا تحصونه من نعم الله، وأن الله تعالى يعلم سركم وعلنكم، فيغني ذلك عن إلزامكم شكر كل نعمة، هذا على قراءة من قرأ {تسرون} بالتاء مخاطبة للمؤمنين، فإن جمهور القراء قرأ {تسرون} بالتاء من فوق {وتعلنون} و{تدعون} كذلك، وهي قراءة الأعرج وشيبة وأبي جعفر ومجاهد على معنى قل يا محمد للكفار، وقرأ عاصم {تسرون} و{تعلنون} بالتاء من فوق و{يدعون} بياء من تحت على غيبة الكفار، وهي قراءة الحسن بن أبي الحسن، وروى هبيرة عن حفص عن عاصم، كل ذلك بالياء على غيبة الكفار، وروى الكسائي عن أبي بكر عن عاصم كل ذلك بالتاء من فوق، وقرأ الأعمش وأصحاب عبد الله {يعلم الذي تبدون وما تكتمون وتدعون} بالتاء من فوق في الثلاثة، و{تدعون} معناه تدعونه إلهاً، وعبر عن الأصنام ب {الذين} على ما قدمنا من أن ذلك يعم الأصنام وما عبد من دون الله وغيرها، وقوله تعالى: {لا يخلقون شيئاً وهم يخلقون} أجمعُ عبارة في نفي أحوال الربوبية عنهم، وقرأ محمد اليماني {والذين يُدعون} بضم الياء وفتح على ما لم يُسم.
و {أموات} يراد به الذين يدعون من دون الله ورفع على خبر ابتداء مضمر تقديره هم أموات، ويجوز أن يكون خبراً لقوله {والذين} بعد خبر في قوله {لا يخلقون} ووصفهم بالموت مجازاً. وإنما المراد لا حياة لهم، فشبهوا بالموت، وقوله {غير أحياء} أي لم يقبلوا حياة قط، ولا اتصفوا بها.
قال القاضي أبو محمد: وعلى قراءة من قرأ {والذين يدعون} فالياء على غيبة الكفار، يجوز أن يراد بالأموات الكفار الذين ضميرهم في {يدعون}، شبههم بالأموات غير الأحياء من حيث هم ضلال غير مهتدين، ويستقيم على هذا فيهم قوله {وما يشعرون أيان يبعثون} والبعث هنا هو الحشر من القبور، و{أيان} ظرف زمان مبني، وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي {إيان} بكسر الهمزة، والفتح فيها والكسر لغتان، وقالت فرقة: {وما يشعرون} أي الكفار {أيان يبعثون} الضميران لهم، وقالت فرقة: وما يشعر الأصنام أيان يبعث الكفار.
قال القاضي أبو محمد: ويحتمل أن يكون الضميران للأصنام، ويكون البعث الإثارة، كما تقول بعثت النائم من نومه إذا نبهته، وكما تقول بعث الرامي سهمه، فكأنه وصفهم بغاية الجمود أي وإن طلبت حركاتهم بالتحريك لم يشعروا لذلك.
قال القاضي أبو محمد: وعلى تأويل من يرى الضمير للكفار ينبغي أن يعتقد في الكلام الوعيد، وما يشعر الكفار متى يبعثون إلى التعذيب، ولو اختصر هذا المعنى لم يكن في وصفهم بأنهم {لا يشعرون وأيان يبعثون} طائل، لأن الملائكة والأنبياء والصالحين كذلك هم في الجهل بوقت البعث، وذكر بعض الناس أن قوله {أيان يبعثون} ظرف لقوله {إلهكم إله واحد} [النحل: 22] وأن الكلام تم في قوله {وما يشعرون}، ثم أخبر عن يوم القيامة أن الإله فيه واحد وهذا توعد.


لما تقدم وصف الأصنام جاء الخبر الحق بالوحدانية، وهذه مخاطبة لجميع الناس معلمة بأن الله تعالى متحد وحدة تامة لا يحتاج لكمالها إلى مضاف إليها، ثم أخبر عن إنكار قلوب الكافرين وأنهم يعتقدون ألوهية أشياء أخر، ويستكبرون عن رفض معتقدهم فيها، واطراح طريقة آبائهم في عبادتها، ووسمهم بأنهم لا يؤمنون بالآخرة إذ هي أقوى رتب الكفر، أعني الجمع بين التكذيب بالله تعالى وبالبعث، لأن كل مصدق يبعث فمحال أن يكذب بالله، وقوله {لا جرم} عبرت فرقة من النحويين عن معناها بلا بد ولا محالة، وقالت فرقة: معناها حق أن الله، ومذهب سيبويه أن {لا}، نفي لما تقدم من الكلام، و{جرم} معناه حق ووجب، ونحو هذا، هذا هو مذهب الزجاج، ولكن مع مذهبهما {لا} مُلازمةٌ ل {جرم} لا تنفك هذه من هذه، وفي {جرم} لغات قد تقدم ذكرها في سورة هود، وأنشد أبو عبيدة: / جرمت فزارة / وقال معناها حقت عليهم وأوجبت أن يغضبوا، و{أن} على مذهب سيبويه فاعلة ب {جرم}، وقرأ الجمهور أن، وقرأ عيسى الثقفي إن بكسر الألف على القطع، قال يحيى بن سلام والنقاش: المراد هنا بما يسرون مشاورتهم في دار الندوة في قتل النبي صلى الله عليه وسلم، وقوله {إنه لا يحب المستكبرين} عام في الكافرين والمؤمنين، فأخذ كل واحد منهم بقسطه، وفي الحديث «لا يدخل الجنة وفي قلبه مثقال حبة من كبر»، وفيه «أن الكبر منع الحق وغمص الناس» ويروى عن الحسن بن علي أنه كان يجلس مع المساكين ويحدثهم، ثم يقول {إنه لا يحب المستكبرين}. ويروى في الحديث «أنه من سجد لله سجدة من المؤمنين فقد برئ من الكبر» وقوله {وإذا قيل لهم ماذا أنزل ربكم} الآية، الضمير في {لهم} لكفار مكة، ويقال إن سبب الآية كان النضر بن الحارث، سافر عن مكة إلى الحيرة وغيرها، وكان قد اتخذ كتب التواريخ والأمثال ككليلة ودمنة، وأخبار السندباد، ورستم، فجاء إلى مكة، فكان يقول: إنما يحدث محمد بأساطير الأولين، وحديثي أجمل من حديثه، وقوله {ماذا} يجوز أن تكون ما استفهاماً، وذا بمعنى الذي، وفي {أنزل} ضمير عائد، ويجوز أن يكون ما وذا اسماً واحداً مركباً، كأنه قال: أي شيء وقوله {أساطير الأولين} ليس بجواب على السؤال لأنهم لم يريدوا أنه نزل شيء ولا أن تم منزلاً، ولكنهم ابتدوا الخبر بأن هذه {أساطير الأولين}، وإنما الجواب على السؤال، قول المؤمنين في الآية المستقبلة
{خيراً} [النحل: 30] وقولهم: {أساطير الأولين} إنما هو جواب بالمعنى، فأما على السؤال وبحسبه فلا، واللام في قوله {ليحملوا} يحتمل أن تكون لام العاقبة لأنهم لم يقصدوا بقولهم {أساطير الأولين} {ليحملوا الأوزار}، ويحتمل أن يكون صريح لام كي، على معنى قدر هذا، ويحتمل أن تكون لام الأمر، على معنى الحتم عليهم بذلك، والصغار الموجب لهم، والأوزار الأثقال، وقوله {ومن} للتبعيض، وذلك أن هذا الواهن المضل يحمل وزر نفسه كاملاً ويحمل وزراً من وزر كل مضل بسببه ولا تنقص أوزار أولئك، وقوله {بغير علم} يجوز أن يريد بها المضل أي أضل بغير برهان قام عنده، ويجوز أن يريد {بغير علم} من المقلدين الذي يضلون، ثم استفتح الله تعالى الإخبار عن سوء ما يتحملونه للآخرة، وأسند الطبري وغيره في معنى هذه الآية حديثاً، نصه أيما داع إلى ضلالة فإن عليه مثل أوزار من اتبعه من غير أن ينقص من أوزارهم شيء، وأيما داع دعا إلى الهدى فاتبع فله مثل أجورهم من غير أن ينقص من أجورهم شيء و{ساء} فعل مسند إلى {ما}، ويحتاج في ذلك هنا إلى صلة.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8